بين ضفتي الوطن .. يدٌ درويشية

" وقلت: ابتعدتُ قليلاً لاقترب،
فقالوا: هذه طريقة النادم في الكلام. فهل ندمتَ حقاً على
هذا السفر؟
قلت: لا أعرف ما دمت في أول الطريق".
لم يرحل درويش في أول الأمر، أصرّ على أن يقاوم وينجز "انتفاضه" على جسده ليعود إلينا حاملاً معه صورة الموت الأسود ، ليكتب جداريته التي كان فيها الميت – الحي .. عاد درويش من موته الاول ليهدينا حضوره وسنوات أخرى لأجل الوطن فيه، لأرض فلسطين الحبيبة . فنهلنا تلك الجدارية بعمق الصائم لرشفة الماء الأولى.
عاد حياً أكثر، محباً أعمق، نابضاً أروع.. وبعودته احتل محمود درويش مقعداً معقداً أكثر بالأدب العربي والعالمي والأدب المقاوم .
عشر سنوات كانت بين الرحلة الباريسية الاولى لوفاته وبين توقف آخر نبض فيه. فأحيا كثيراً من الأمسيات الشعرية بأسفره
فكان في بيّارات يافا
في حيفا
في قدسية القدس
في بحر وسور عكا
في رام الله
في ليل بيروت
في دمشق وقاسيونها
في نيل القاهره
في قلب حبيبته تونس
دبي
عمّان
الرباط
صنعاء وعدن
في برج باريس ...
لندن
أمستردام
برلين.
والتي قد ذكر بعض منها في " ذاكرة للنسيان" :
"المدن رائحة: عكا رائحةُ اليود البحري والبهارات. موسكو رائحة الفودكا على الثلج. القاهره رائحة المانجو والزنجبيل. بيروت رائحة
الشمس والبحر والدخان والليمون. باريس رائحة الخبز الطازج والأجبان ومشتقات الفتنة. دمشق رائحة الياسمين والفواكه المجففة. تونس رائحة مسك الليل والملح. الرباط رائحة الحناء والبخور والعسل.".
مسيرته الشعرية والأدبية عاصرها الكثيرون وشهد له من قرنائه وأجيال أتوا من بعده ، كنتُ منهم فشهدتُ درويش في كثير من أماسيه يعاند
القاعة والحضور بجديده دائماً. فكان يمارس شعره بطريقه شاقّة حيث ألف الناس أن يسمعوا منه ما أحبوه في كل أمسية ويطالبونه بها كـ : أحن إلى خبز أمي، أحمد الزعتر" و "بطاقة الهوية". ولكن درويش كان يضخ فيهم نبض قلمه الجديد فيقرأ عليهم قصائده الجديدة وما إن ينتهي ليعاود الحنين فيهم إلى جديده قبل قديمه.
كان فراشة فلسطين في الحب والمقاومة معاً .. فكان عاشق فلسطين الأول ، وحبيب التراب، وشاعر المقاومة والأرض كلما حطّ من ترحال عاد من جديد إلى حضن الأم.. ليلقي عليها السلام الأخير ، ليغفو في حورية، وليعاود السفر في قلبها .
في سفره الاخير لم يبتعد قليلاً ولكنه ابتعد أكثر في لحظات كنا نشعر بأنها الوداع الحقيقي، سافر محمود آخذاً معه قلب أحبته جواز سفر،
ودعوات أمه. ليحط في ترحاله الأخير : قيثارة فلسطينية لم تمت.
هذا البحر لي / هذا الهواء الرطب لي/
واسمي على التابوت لي/ أما أنا وقد امتلأت بكل أسباب
الرحيل
فلست لي / أنا لست لي / أنا لستُ لي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق